بما ان المؤسسات العسكرية تنكرت لمستقبلنا سنتحدث عن الماضي ،الحلقة 38 من سلسلة في زمن الحرب و الجوع (أسر شهداء حرب الصحراء المغربية 1975 ،1991)
كانت الساعة تشير إلى السابعة مساءا حينما استيقظت، ذهبت صوب المطبخ فوجدت السيد علي يعد ابريقا من القهوة السوداء مع الحليب، جلست معه أكلنا سويا وتناقشنا في موضوع مصروف البيت، قال لي أن كل واحد من الذين يشاركونني السكن يتكفل بملء قنينة الغاز شهريا، أي أن معظم أمور الشقة يسيرونها بالتناوب تفاديا لأي نزاع، الأمور واضحة منذ البدء ومعنى هذا أنه يجب علي الإلتزام بالقوانين الداخلية التي سطرها من سبقوني لاستئجار بيت في هذه الشقة، جميل هذا النظام إن إلتزم كل فرد منا بما له و ما عليه، حينما التحق بنا الطالبان الجامعيان لمشاركتنا الحديث، شردت لبرهة من الزمن، فكرت في مشكلتي، النقود التي أملكها لن تكفيني إن بقيت هكذا دون عمل، وهذه مشكلة كبيرة لأنني سأصبح عبئا على هؤولاء الرجال الطيبين، كما أن العيب لا بد وأن يخرج من أفواههم إن أنا لم أساهم في دفع المصاريف المشتركة كالماء و الكهرباء و غيرها، وذلك أمر حرج و مخجل ولا أريد له أن يحدث كما لا أريد لحبل الود والإحترام أن ينقطع بيننا.
- فين ساهي!؟
- والو خويا علي غي كنفكر فشي حوايج وصافي
- واش مخدمتيش ليوما ؟
- خرجت صباح بكري كنقلب على خدمة وملقيت والو، غدا ان شاء الله غنقلب فجهة أخرى من لمدينة
- آه يصحابليا راك لاقي خدمة قبل متجي
- لا أخويا كي وصلت المحطة قلبت على بيت نسكن فيها هيا لولا عاد قلت من موراها نقلب على خدمة
- بلاتي أنعيط على حمد راه سمعت بلي لباطرون ديالو كيقلب على شي سرباي يخدم فالقهوة
نهض السيد علي مناديا على أحمد عساه يفيدنا في موضوع العمل، تحمست حينما سمعت ما قاله، ترجيت الله أن يكون لي نصيب في ذلك الشغل، كي أبدء العمل فورا عوض أن أضيع وقتي في المزيد من البحث، كما أن مهنة "سرباي" ستعجبني بلا شك لاسيما و أنني سبق و أن تعاملت مع الزبناء حينما كنت أملك مشروعا صغيرا للوجبات السريعة والذي تأسفت له لأنه لم يستمر بسبب كل المشاكل التي واجهتها وحدي قبل أن أقرر الهروب إلى هنا و ترك كل شيء حتى أسرتي، لا أدري ماذا يفعلون الآن و لا كيف تجاوزو بدورهم "المصيبة" التي لاحقت بشرف العائلة، لا أعلم كيف تعتني أختي بابنها الغير شرعي، لا أعلم أي شيء عنهم، تنتابني رغبة قوية في رؤيتهم لا أنكر أنني اشتقت لهم، لكن محتوم علي بالمضي قدما لرسم طريق جديدة لحياتي بعيدا عن القيل والقال، بعيدا عن وصمة العار.
- جلس أسي حمد، عيطت ليك باش نسولك واش لقيتو مزال شي سرباي؟
- لا مزال، علاش!
- راه خونا محمد مخدامش، صباح خرج يقلب وملقى والو
- أييه مرحبا، واش فايت ليك خدمتي سرباي فشي قهوة؟
- لا عمري خدمت سرباي ولكن كنت داير كروصة كنبيع سندويتشات وكنت الحمد لله كنصور بيها طرف الخبز
- و علاش حبستي!
- قصة طويلة خويا حمد شي نهار نعاودها ليكوم
قلت جملتي الأخيرة بنبرة فيها قليل من التحفظ، كأن السؤال أحرجني لأن الإجابة عليه ستحتم علي رواية القصة بأكلها بما فيها حمل أختي الغير شرعي، وأنا لا أريد أن أخبر سري لأي أحد، جئت لهذه المدينة ناسيا كل شيء طامحا في حياة أخرى لا يلاحقني فيها شبح الماضي، أحس السيد علي بأنني لا أريد التحدث في السبب الذي جعلني أترك مشروعي الصغير فاستدرك الموضوع قائلا:
- باين ليا السيد معقول و غايخدم غي علم الباطرون ديالك
- إوا داكشي لكنتمنى خويا علي، الواحد يكون غير معقول وصبار وكيتعامل مع لكليان مزيان راه غيدير بلاصتو فالخدمة، المهم خويا محمد غدا وجد راسك مع ستة ونص غنخرجو من دار غاتمشي معايا لقهوة تعرف على الباطرون ويشوفك وديكساعا تافق معاه على كلشي
- واخا الله يحفظك، غدا تلقاني واجد مع الوقت
- نتمنى ليك غير الخير الله يسخر
حينما انتهى الحديث خرج السيد أحمد لقضاء أغراضه، بينما ذهب السيد علي ليغسل بعضا من ملابسه المتسخة، شكرتهما معا و ذهبت بدوري لغرفتي الصغيرة، ارتديت ثيابي و هممت بالخروج، أحسست برغبة قوية للتجول في شوارع هذه المدينة، كنت أحس براحة داخلية كبيرة لأنني عثرت على عمل، ولأنني سأستقر هنا و رغم خوفي من المجهول إلا أنني كنت متفائلا و لا أدري سبب هذا الإحساس المفاجئ الذي اسيقظ بداخلي و أنا ألمح ليل هذه المدينة و أتمعن في ملامح ساكنيها، أصادف وجوها لا أعرفها، أبتسم لبعضها بينما أهرب من ملامح بعضها الآخر، أريد التحدث لأي أحد أريد أن أصرخ وسط الشارع، جنون بداخلي استيقظ فقمعته و منعته من الخروج لأنني سأعتبر مجنونا إن أنا عبرت عن بعضا من أحزاني و أوجاعي بطرق أخرى غير الكلام.
تعبت من المشي، فجلست على كرسي في ساحة عمومية تزينها بعض الأشجار و ضحكات الأطفال الذين أتو برفقة أبويهم، أحاول استرجاع ذكريات طفولتي لكن قليلة هي الأشياء التي تقفز للذاكرة، أشياء مؤلمة من بينها موت والدي رحمه الله، جنازة دون جثة، صرخة والدتي حينما وصل لها خبر استشهاد أبي في حرب الصحراء، كلها أشياء توجع و تدمي القلب لذا من الأفضل أن يطالها النسيان وأن تحل محلها ذكريات أخرى جميلة تبهج القلب و تسعده، لا أدري إن كنت سأحظى بذلك النوع من الذكريات يوما، ليتنا نعرف قدرنا كله مسبقا، الأمور التي تظل في علم الغيب تخيفني و تقلقني، لكن سرعان ما يختفي هذا التوتر حينما أتوجه إلى الله مناشدا إياه بأن يرحمني و يرشدني للطريق الصحيح، و أن يصبرني على ما حدث و يهون علي ما سيحدث لأنه وحده يعلم ما تخبئه لي الأيام و وحده يعلم مصير عباده، مثواهم و مأواهم.
حلقة كل خميس
من توقيع ليلى اشملال