بما ان المؤسسات العسكرية تنكرت لمستقبلنا سنتحدث عن الماضي ،الحلقة 39 من سلسلة في زمن الحرب و الجوع ( أسر شهداء حرب الصحراء المغربية 1975 ،1991
بدأت العمل في المقهى بعد أن تعرفت على مالكها الباطرون "عبد الكريم"، بدى لي من تقاسيم وجهه و هيأته أنه رجل قاس و صارم و هذا بالضبط ما أكده لي هو نفسه لاحقا حينما كان يقف على العمال ليصدر أوامره بلغة جافة، ساهرا على أن يكون العمل الذي يقدم للزبناء كاملا لا يعيبه و لا ينقصه شيء، اتفقت معه في اول لقاء لنا على كل شيء، ساعات العمل و أجرتي الأسبوعية و يوم راحتي الذي قرر أن يكون يوم الخميس، في البداية ظننت أن المقهى يغلق أبوابه كل أحد أي نهاية كل أسبوع لكن السيد احمد اخبرني لاحقا أن المقهى لا يغلق أبدا و هذا ما يفسر اختلاف يوم العطلة بين العمال، أي أن الذي سيشتغل يوم الأحد بامكانه اختيار يوم آخر ليرتاح فيه و بهذا لن يضيع حق أي أحد فينا.
في مقهى السعادة رأيت أنواعا كثيرة من الناس، يأتي إلى هنا التعيس و المسرور، صاحب الوظيفة و العاطل عن العمل المتزوج و العازب، لن أقول الفقير و الغني لأن كل الزبائن الذين يترددون على المقهى هم أناس بسطاء جدا، تجد تفاوتا طفيفا بينهم يظهر و يتجلى بوضوح في نوعية ملابس البعض الذي تنم عن اهتمام بالهندام الخارجي و الحرص على الظهور بمظهر انيق و نظيف، وكانت هذه الفئة غالبا ما تأتي محملة بجريدة ما في يدها أو قد تشتريها من بائع الجرائد الذي ينتقل كل يوم بين موائد و كراسي المقاهي و في ارجاء المحطة الطرقية طمعا في بيع مداد الكلمات مقابل دراهم معدودة.
كان المقهى يقدم خدمات متنوعة لا تحتصر في كؤوس الشاي او القهوة السوداء فقط، بل بجانب ذلك ايضا يمكننا تقديم و جبة فطور أو غداء خفيفة كطبق "البيض و الماطيشة" او "البيض و الخليع" و شرائح السردين المقلية مع الطماطم و البصل وغيرهم من الوجبات الغير دسمة و التي بمقدور صاحب المقهى توفيرها لنا حتى نطهوها و نقدمها للزبون حسب الطلب.
كنت شاردا حينما نبهني السي حمد أنه لم يتبقى أي شخص في المحل و أنه حان وقت الإغلاق، كانت الساعة الحائطية تشير إلى اقتراب الحادية عشر ليلا، هممت بمسح الموائد و ازالة ما بقي عليها من طعام و أعقاب سجائر، نظفت الأرضية أيضا من الأوساخ و الغبار و أغلفة بعض المأكولات التي عصفت بها الرياح إلى أرضية المقهى و القت ببعضها على الرصيف أيضا، حينما أوشكت على الانتهاء جاء قط جائع يصرخ في وجهي علني أرحمه بقليل من الأكل و كأنه يستنجد بي، أو كأنه على علم مسبقا بأنه يتواجد في مكان يتوفر على طعام و أكل، غير أنه و في هذه الساعة بالذات لم يكن في المقهى ما يمكنني منحه لهذا القط الجائع و حتى البقايا التي أزلتها من على الطاولات لم تكن تحوي سوى فتات الخبز، لا يمكن لك هنا أن تتوقع العثور على شيء آخر غير فتات الخبز لأن الناس تأكل بنهم حتى لو شبعت فإنها تبقى جالسة على الكراسي حتى تنتهي من التهام كل ما جاء في طبقها، وذلك ربما راجع الى معرفتهم و احساسهم بمعنى الجوع أو لأنهم لا يسمحون لأنفسهم بترك شيء ما دفعوا ثمنه كاملا، و فيهم أيضا من يرى أن الأمر يتعلق بالحرام و الحلال، يقول البعض أنه محرم علينا عدم اكمال وجبة طعام معينة وتركها ليكون مصيرها القمامة لأن غيرنا لا يجد ما يسد به جوعه، متناسيين أنه في الأحياء الفقيرة و الشعبية لا شيء مصيره القمامة سوى كيس الزبالة، أما البقايا فهي لمثل هذا القط الجائع و ربما لإنسان لمتشرد على الرصيف ينظر للبقايا على انها هبة ربانية خلصته من موت محتم بسبب عدو البشرية "الجوع".
تذكرت شرائح السردين المعلب الذي أكلت منها القليل على الغذاء، اخدتها ثم وضعت محتواها فوق قطعة كرتونية صغيرة برفقة كأس بلاستيكي مملوء بالماء، بدأ القط بشرب الماء أولا ثم ذهب باتجاه شرائح السردين المغمورة بالزيت وهنا هممت انا بغلق المحل استعددا للرحيل رفقة السي احمد الذي جمعني به حوار معمق طوال مسافة طريق العودة، تحدثنا في أمور كثيرة رأيناها أو سمعناها تخرج من أفواه مرتادي مقهى السعادة، حينما انصت لأقوال السي احمد تأكدت مجددا أنه لكل منا همومه، لكل انسان مشاكله و صرعاته، وأنه ما من أحد و جد أرضية الحياة مستوية كما تمناها بل هناك عواصف و رياح و زلازل تعصف بنا، تختلف شدتها من شخص الى آخر و يختلف أيضا وقعها على كل واحد فينا لأنه بالأخير لكل منا اهتماماته و أمنياته و لكل منا روحه المتعبة التي شوهت صفاءها يد القدر العابثة بسكينة الروح لاختبارها أو لاجبارها على تعلم شيء ما لن تستطيع الاستمرار في الحياة جاهلة إياه
حلقة كل خميس
من توقيع ليلى اشملال.