بما ان المؤسسات العسكرية تنكرت لمستقبلنا سنتحدث عن الماضي ،الحلقة 32 من سلسلة في زمن الحرب و الجوع ( أسر شهداء حرب الصحراء المغربية 1975 ،1991)
أعين الناس تتكلم هذا ما لاحظته حينما تجرأت وخرجت من المنزل أمام الجميع دون أن أنظر في الأرض، بل رفعت رأسي عاليا كعادتي لأنني رجل صالح لا يعيبه شيئ، لذا لم أخجل و لم أتجنب النظر لمن حولي هربا منهم، لقد تجرأت بشجاعة و دفعت ثمن هذه الجرأة غاليا فيما بعد.
في بادئ الأمر كنت أتجنب نظرات الإحتقار و السخرية الموجهة لي من بعض الجيران، كنت أتعامل مع الجميع على أساس أن سرنا لم ينكشف بعد أمامهم، هذه الكذبة التي صدقتها كانت تؤلمني لكنني تعودت على أشياء كثيرة لاحقا، تعودت على حقارة البعض ونكران الناس للجميل، تعودت على العيش وسط عالم مليء بالأحكام المسبقة و النوايا السيئة، تأقلمت على العيش وسط الأحياء التي تنسب لك جرائم و أفعال شنيعة أنت لم ترتكبها من الأساس، لكنها تنسب لك لأنك من أقرباء المجرم و المخطئ، وحتى لو أن أختي قد قامت بشيء لا يغتفر ولا ينسى بسهولة، لكن أليس الله بغافر للذنب؟! من نكون نحن حتى نحاسب بعضنا البعض بأشياء أجبرنا عليها أو تم استغلالنا فيها، لا يهم الجواب فنحن أمة منافقة من الأساس، نحاسب الناس و نغض النظر عن محاسبة أنفسنا، نحكم على الضعيف فقط ولا نستطيع أن نتفوه بشيء أمام القوي، نلعب لعبة الغاب لا أقل و لا أكثر !
كلام الناس لم يعد يؤلمني بقدر ما يعذبني أن أسمع نسب أبي يتداول على الألسن بطريقة بشعة، "إن ابنة فلان حملت بدون زواج" ليثهم ترحموا على والدي واكتفوا بذلك، ليثهم تركوه جانبا لترقد روحه بسلام، فهو لم يحضر فضيحة ابنته، ولو كان حيا لما ترك أشياء كثيرة تقع لأنه كان نعم الرجل والأب ،حريص على أهله و وطنه الذي استشهد من أجل الدفاع عن حوزته.
مرت الشهور و أصبح ينحني رأسي للتراب شيئا فشيئا خاصة إن رمقني أحدهم بنظرة مذلة قاصدا بها استصغاري واحتقاري لأنني أخ الفتاة التي حملت من علاقة غير شرعية، سراب الجرأة يختفي بعيدا لم يتبقى سوى رائحة المذلة ، في كثير من الأحيان خيل لي و كأنهم يريدون مني قتل شقيقتي حتى أظل الرجل الشجاع الذي كنته سابقا، يجب أن أفعل ذلك لكي تستبدل نظراتهم الرخيصة لي بنظرات فخر واعتزاز، وكأن شرفهم الكاذب أهم من الروح التي منحنا الله إياها والذي وحده له الحق في أخدها متى يشاء، فمن نكون نحن حتى نخرج بأحكام لا علاقة لها بديننا الذي يغفر جميع ذنوب المرء فور توبته منها ورجوعه لخالقة طالبا رضاه، ما وقع شيء لا يستهان به وأنا لا أنكر فظاعته، إن العفة شيء جميل، والأجمل من ذلك هو الفتاة التي تخرج من منزل أبيها وهي ثمينة و غالية كجوهرة نادرة يفخر أباها ببريقها أمام الجميع، لأن لا يد بشرية طالت ابنته و تمكنت منها ومن بريقها قبل الآوان، لا شك في أن أختي أرادت أن تزف كغيرها من البنات بنفس الطريقة التي تعظم من شأن وقيمة العذراء، لاشك أنها حلمت بمراسم عرس جميلة كعيونها اللوزية السوداء، ولكن القدر كان له رأي آخر وهي الآن قد حرمت من أشياء كثيرة و قيمة، دفعت أختي حق غلطتها، دفعت ثمن التخلي عن شرفها بسهولة أمام شخص غريب لا يربطها به أي عقد شرعي، أختي لم تكن سوى ضحية رجل وغد كاذب وعدها بالزواج وهرب بعيدا حينما تمكن منها، كثيرات غيرها يهبن أنفسهن عن طيب خاطر لمن يغرقهن في الأحلام الوردية و هذه أكبر غلطة يقمن بها الفتيات اللواتي يقعن في فخ الرجولة الكاذبة، ولكنهن للأسف يدركن الحقيقة متأخرين عن كل شيء، خاصة في ظل مجتمع عربي لا يرحم ولا يغفر و لا ينسى.
في الخامس من ديسمبر جاءت أختي لوحدها دون أن يكون ياسين معها، لم تمنحني فرصة سؤالها عن غيابه، لأنها أسرعت بالقول فور جلوسها أن ياسين طلقها و لم يعد باستطاعته العيش معها ومع ابنها الصغير، كان وقع اعترافها بمثابة صدمة كبيرة لي، لم أتوقع شيئا كهذا من رفيق العمر، ومع ذلك لم ألمه حتى ولو بيني و بين نفسي، لأنني كنت أدرك جيدا ما قد يعانيه أي شخص في مكانه اكتشفت عائلته فجأة حقيقة أنه تزوج بفتاة وهي حامل من غيره و الأسوء اكتشافهم لرضاه بها وقبوله التام بحالتها رغم علمه بحقيقتها المرة إلا أنه قرر الزواج منها ضارب بعرض الحائط جميع الأحكام الثابتة للمجتمع، لا أدري إن فعل ذلك شفقة على حالي أثناء علمي بالحمل أو رغبة منه في الزواج حقا كما قال حينما تقدم لخطبة شقيقتي، تمنيت لو أن الخطوبة اللعينة لم تتم، لو أنه لم يتزوج بأختي، لو أننا فكرنا في حل آخر جنبنا أن نخسر صداقتنا القوية بسبب مشكل ليس لكلانا يدا فيه لكن أجبرنا على تحمل عواقبه.
انتهت مراسيم الطلاق ولم ألتقي بعدها بياسين أبدا سوى مرة واحدة خجل فيها من النظر لعيني لكنه أبدى تأسفه لي لما وقع بين أسرتينا و ما بدر من أهله حينما شتمونا وفضحوا سرنا أمام الجميع، أشرت له برأسي بما يفيد أنني قبلت اعتذاره وكانت هذه آخر مرة أراه فيها، وحينما تزوج مرة تانية كان ذلك بمثابة آخر خبر أسمعه عنه و عن أي شيء يخصه، احترقت صفحات الصداقة وأصبح غريبا عني كما أضحيت أنا كذلك غريبا في نظره! عجيب هو منطق الحياة، في لحظة واحدة قد يصبح القريب بعيدا وينقلب الصديق عدوا، ويصبح الذي كان بيننا وبينه ألفة شخصا غريبا عنا، حتى أننا بصعوبة قد نتذكر الأشياء و المواقف التي جمعتنا به، وفي أحيان أخرى قد تقفز و تتجلى الذكريات بسهولة تامة أمام أعينا، و لكننا لا نأبى إلا أن نتنكر لها! لإسكات صوت ضمائرنا التي تموت شيء فشيئا كلما تمكنا من جعلها تصمت تفاديا لأي وجع، نصر على ذلك حتى نتمكن أخيرا من جعلها تخرص للأبد فلا يتبقى أي شيء على حاله.
حلقة كل خميس
من توقيع ليلى اشملال