بما ان المؤسسات العسكرية تنكرت لمستقبلنا سنتحدث عن الماضي ،الحلقة 33 من سلسلة في زمن الحرب و الجوع (أسر شهداء حرب الصحراء المغربية 1975. 1991)
اليوم أحسست بتعب شديد وقليل من الحمى التي ستزول بخلطة والدتي التي أساسها " نبتة المخينزة" و التي تضعها على رأس أي واحد منا في حالة إذا ما ارتفعت درجة حرارة جسمه عن المعتاد، قررت العودة باكرا للمنزل اليوم لأستريح قليلا، في الحي المجاور لنا وأنا أجر عربة المأكولات خاصتي، صادفت أسامة و عماد، أعرفهما عن بعد فقط، قليلا ما كنت أتحدث معهما، لكن تربطني بهم بعض ذكريات الطفولة حيث كنا نتشكل لفرق للعب كرة القدم أوبعض الألعاب الشعبية الأخرى، حييتهما برأسي حينما مررت بجانبهما لكنهما استوقفاني لغاية الأكل، ورغم تعبي واستعجالي للوصول إلى المنزل إلا أنني أعددت لهم بعض الشطائر بقطع اللحم المتبقية لدي، قاما بإعطائي ورقة نقدية من فئة عشرون درهم لأقتطع ثمن الشطيرتين اللتان أعددت لهما إلا أنني وبحكم أننا جيران لم أحب أن آخد ثمن الشطيرتين، اعتبرتهما عطاء مني لصديقي الطفولة بما أنهما لم يتناولا مسبقا من المأكولات التي أبيعها على عكس بعض شباب الحي الآخرين الذين ترددوا على عربتي لأكثر من مرة رغبة في الأكل وتشجيعا منهم لي، ولأنني قمت بإعفاءهما من دفع ثمن الشطيرتين توقعت منهما شكرا إلا أنهما فهم المقصود غلط ولربما تعمدا أن يفهماه غلط لخلق جدال بيني وبينهم، كان أسامة في حالة سكر فتغاضيت عن الموضوع وقررت عدم الرد عليه حينما كان يتمتم ببعض الكلام الذي لم يصل لأذني كاملا، قمت بتفاديهما لأنني لست في مزاج يسمح لي بالدخول معهما في نقاش حاد، لكن سرعان ما انطلقت تلك الكلمات من فم عماد كانت كالسهم الذي أصاب قلبي مباشرة فأوجعه، انفجرت في وجههما ولكنهما لم يكتفيا بذلك ، شتموني بأخ العاهرة، لم أتماسك نفسي فانقضضت عليهما وتبادلنا الضرب والجرح، الصراخ وحالة الفوضى وصلت للأهالي القاطنين بالحي، تشابكت الأيادي الدم يسيل من فمي، وبينما أنا مشغول بضرب الحقير الذي شتمني، توجه الآخر لعربة المأكولات فحطم كل شيء، حاول بعض الناس التفرقة بيننا، جاء أخي الذي كان بالجوار يجرني متوجها بي نحو المنزل، أصبت ببعض الجروح في وجهي ويدي، جسدي تغاضى عن ألم الضرب، وحده الألم الذي تسببت فيه كلمة "أخ العاهرة" هو الذي ظل يوجعني طيلة الليل، يعتبرون أختي ساقطة، يتعاملون معي وكأنها كانت تتاجر وبرغبة منها في الدعارة، هم يعلمون جيدا الحقيقة خاصة بعد ما انفضح سرنا أمام جميع من في الحي، وذلك حينما تهجمت علينا أم ياسين وأخته، لكنهم يتناسون الحقيقة للطعن في الشرف ولأجل التجريح لا غير.
جهزت لي أمي المخينزة فوضعتها على رأسي بعد أن حزمته بقطعة ثوب بالية، عقمت جروحي الكثيرة وحنيت رأسي للأسفل وأنا أمعن النظر في الأرض، سألني أهل المنزل عن سبب مشاداتي مع الشابين في الحي المجاور، لم أحب أن أفصح عن ما حدث، لم أبدي أي رغبة في الكلام، تركتهم دون إجابة وذهبت للنوم، أحس وكأنني أحمل هموم الدنيا كلها على رأسي، إحساس سيء يجتاحني فلا يترك أي ذرة أمل في قلبي، أتذكر أن عربتي التي هي مصدر رزقي قد كسرت وسيلزمني المال لإعادة إصلاحها أي أنني لن أعمل غدا وربما بعده أيضا، النقود لم تعد قضيتي الأولى ولا همي الوحيد، كل ما أفكر فيه الآن هو الرحيل، مغادرة هذا الحي أو هذه المدينة برمتها نحو إتجاه آخر لا يعرفني فيه أي إنسان، لأتمكن من بدء حياة جديدة دون أن يطاردني الماضي أو يحاصرني الحاضر، أريد أن أختفي بعيدا حيث لا عيون تترقبني لتذلني أو لتصغرني أمامها، أريد أن أغادر وأن أقيم حيث لا أحد يعرف بقضيتي ليمسكني من اليد التي توجعني، أنا لا أريد لي سوى حياة جديدة أرمم بها نفسي وأنسى فيها كل ما كان يخصني منذ لحظة ولادتي إلى حدود هذا اليوم.
في مجتمعنا العربي بعضهم يذهب إلى أن المرأة وحدها ضحية الشرف والحياء، يتناسون أن حياة الرجل الشرقي أصعب بكثير من حياة المرأة، لأنه دائما يغدو ضحية التقاليد و القيم الصارمة في مجتمعه نتيجة لما ورثه من أجداده من جهة، و ما فرض عليه دينه من جهة أخرى، إنني لا أنكر الوضعية الصعبة التي تعيشها المرأة في عالم عربي لا يهتم سوى بشرف جسدها وسلامة غشاء بكرتها، إن المرأة مظلومة خاصة فيما يتعلق بموضوع الشرف، الذي يحصره المجتمع المكبوت في المنطقة السفلية لجسم المرأة فقط وفي المقابل يغيب جملة من المعاني الأخرى السامية للشرف كالأمانة والصدق والوفاء وغيرها من المبادئ والقيم الجميلة التي يمكن أن تتزين بها المرأة لتكون من أشرف و أنبل مخلوقات الله على هذه الأرض الواسعة، إلا أن الرجل أيضا و في ظل مجتمع لا يرحم يتعرض لضغوطات كبيرة لاسيما وأن شرفه متعلق على وجه التحديد بسلوك زوجته أو بنته أو أخته أو أي أنثى تنتمي لأسرته وعائلته، ولا يتعلق بقدرته على العمل وكسب الرزق الحلال أو بسلوكه المحترم والتعامل الطيب والإنساني تجاه إخوته من بني البشر.
ما يقارب الساعتين وأنا غارق وسط الأفكار التي لا تنتهي، في النهاية لا أستطيع أن أقرر أي شيء مهما طال بي التفكير، صوت داخل رأسي يصور لي الوداع والرحيل على أنه أجمل قرار، حيث تنتهي جميع المآسي والهموم، وصوت آخر مناقض للأول يصحو ليحسسني بتأنيب الضمير إن أنا قمت بترك عائلتي وغادرت دون التفاتة مني للوراء، لا أستطيع اتخاد أي قرار ولا الإستسلام لأي صوت من الأصوات، بدى لي الأمر شبه مستحيل، وأنني لن أستطيع فعل أي شيء أمنع به تسرب المزيد من الجراح بداخلي، فأغمضت عيني واستسلمت للنوم أخيرا، تركت نفسي للأحلام عساها تمدني بحل من الحلول، أو تصور لي نفسي في عالم آخر حيث لاشي من الحقيقة يطاردني، أحتاج أن أكون سعيدا ولو في الأحلام! كالكذبة الجميلة التي هي أفضل بكثير من الحقيقة مرة.
حلقة كل خميس
من توقيع ليلى اشملال